info@biu.edu.lb
009611797601
طباعة |
الفوز لمن؟!
سورة الفرقان الآيات 34 - 77
لما قرر فيما سبق أنه الحامي للقرآن، المدافع عنه، يرد شبه المعاندين ويكشف زيف المخادعين، ناسب أن يتحدى الكافرين ويهددهم فقال:(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا) الذين يساقون يوم القيامة مسحوبين على وجوههم إلى جهنم، أولئك شرٌ مكاناً لأن مكانهم جهنم، وأبعد طريقاً عن الحق لأن طريقهم طريق الكفر والضلال، ولما كان من حق الناس أن تقام عليهم الحجة ويبين لهم الحق بالدليل ناسب أن يذكر جماعةً من الأنبياء تولوا بيان الحق ونشره ونصره والوقوف إلى جانبه، إلى أن ظهر واضحاً جلياً وخذل أعداؤه، وذكر من أولئك موسى (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا*فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا) أعطينا موسى التوراة وحياً متلواً، وصيرنا معه أخاه هارون رسولاً أو وزيراً ليكون له معيناً، فقلنا لهما إذهبا إلى فرعون وقومه الذين كذبوا بآياتنا، فامتثلا أمرنا وذهبا إليهم، فدعوهما إلى توحيد الله، فكذبوهما فأهلكناهم إهلاكاً شديدا، هكذا لخص القصة فذكر مفاصلها الرئيسية وأجملها بناءً على ما سبق، ولما كان موسى من أولاد نوح ناسب أن يذكر بعد الإبن أباه فقال:(وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا) وقوم نوح لما كذبوا الرسل سمى نوحاً رسلاً وهو واحد لأنه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وعلى طول هذه المدة لم ينتفعوا ولا ارتدعوا بل أصروا على باطلهم فأغرقهم الله في البحر وصار إغراقهم دليلاً على قدرته على استئصال الظالمين في الدنيا، وأعد للظالمين يوم القيامة عذاباً أليما، ثم ذكر (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا*وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) ذكر أنه أهلك عاداً قوم هود، وثمود قوم صالح، وأصحاب البئر وأهلك أمماً كثيرة بين هؤلاء الثلاث، وكل أمة من هؤلاء المهلكين، بين لهم إهلاك الأمم السابقة وأسبابه ليتعظوا، ثم أهلكم إهلاكاً شديداً لكفرهم وعنادهم (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا) ولقد أتى المكذبون من قومك في ذهابهم -إلى الشام- على قرى قوم لوط التي أمطرت بالحجارة، عقاباً لها على فعل الفاحشة ليعتبروا، أفعموا عن هذه القرية فلم يكونوا يشاهدونها، لا بل كانوا لا يتوقعون بعثاً يحاسبون بعده على أعمالهم (وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا*إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا) وإذا قابلك -أيها الرسول- هؤلاء المكذبون، سخروا منك قائلين على سبيل الإستهزاء والإنكار أهذا الذي بعثه الله رسولاً إلينا، لقد أوشك أن يصرفنا عن عبادة آلهتنا لقوة بيانه ووضوح حجته وثقته بدعوته، لولا أن صبرنا على عبادتها لصرفنا عنها بحججه الواضحة وبراهينه المقنعة، قال الله وسوف يعلمون حين يعاينون العذاب في قبورهم ويوم القيامة من أضل طريقاً أهم أم هو، وسيعلمون أيهم أشد خسارة وأمكن في الضلال، ترى لماذا لم يقبلوا الحق ويقبلوا على الرسول، مع اعترافهم له بالصدق وقوة البيان وقوة الحجة، ما ذاك إلا أنهم اتبعوا أهواءهم ولا أضل ممن ترك الحق واتبع هواه، لذلك جاء السؤال (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا) أخبرني عن حال من جعل هواه إلهاً فحكّمه ورضي بحكمه واتّبعه وسار وراءه، أتستطيع أنت أن تكون حافظاً له ترده إلى الإيمان وتمنعه من الكفر، ربما لو كان يسمع أو يعقل ولكن إذا فقد العقل من يقنعه ومن يردعه، ثم أضرب عن القضية الأولى إلى قضية ثانية فقال:(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا) بل أتظن أيها الرسول ومن بعده يا من قرأ القرآن وعكف على فهم معانيه، أتظن أن أكثر الذين تدعوهم إلى توحيد الله وطاعته يسمعون سماع قبول، أو يعقلون الحجج والبراهين، ليسوا إلا مثل الأنعام في السماع والتعقل والفهم، بل هم أضل طريقاً من الأنعام، لأنهم عطلوا جوارحهم وإحساسهم وعقلهم، من هنا كان لابد للقرآن من أن يقيم الأدلة المقنعة، ينبّه الغافل ويعلّم الجاهل ويوقظ البعيد فقال:(أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا*ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا) الرؤيا قلبية، وخاطب هنا الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ورائه كل قارئ للقرآن، يلفت نظره إلى آثار خلق الله حين بسط الظل على وجه الأرض، ولو شاء أن يجعله ساكناً لا يتحرك لجعله كذلك، ثم صيّر الشمس دالة عليه يطول بها ويقصر، ثم قبض الظل بالنقص يتدرج شيئاً فشيئاً قبضاً قليلا، حسب ارتفاع الشمس وانخفاضها، وهكذا كان الظل دليلاً على بعض المخلوقات، دليل ثانٍ أشار إليه بقوله:(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا) والله الذي صيّر لكم الليل بمنزلة اللباس يستركم ويستر الأشياء فلا ترون في الليل فتتم لكم الراحة والطمأنينة فتنامون فيه، تجددوا النشاط لتستأنفوا الحياة في اليوم التالي، فحين ينام الإنسان ينشط للعمل بعده، فيصبح قوياً نشيطاً قادراً على العمل يسعى إليه ويرغب فيه، دليل ثالث (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا*لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا*وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا) أنعم الله على الخلق بالماء ولا ينزل الماء من السماء حتى تتحرك الرياح فتجمع السحاب وترصه فوق بعضه البعض، تبشّر بنزول المطر الذي هو من رحمة الله بعباده، فالماء النازل من السماء طهورٌ أي طاهراً في نفسه مطهراً لغيره، وهو أفضل أنواع الماء، يحيي الله بذلك الماء النازل من السماء أرضاً قاحلةً لا نبات فيها، بإنباتها بأنواع النبات وبث الخضرة فيها، ولنسقي بذلك الماء من خلق الله أنعاماً وبشراً كثيرا، ولما كان الماء يحيي الأجسام الحية وغير الحية، ناسب أن يذكر بعده القرآن الذي يحيي القلوب وينور البصائر ويجمع الكلمة ويوحد الصف، يقول ولقد بينا ونوعنا في القرآن الحجج والبراهين ليعتبروا بها، فأبى معظم الناس إلا كفوراً بالحق وتنكراً له، والدليل على أنه أراد بقوله (ولقد صرفناه) أي القرآن، (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا*فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) ولو شئنا لبعثنا في كل قرية رسولا ينذرهم ويخوفهم من عذاب الله، لكنا لم نشأ ذلك وإنما بعثنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى جميع الناس، لنجمع الناس على منهج واحد ونوجههم إلى هدف واحد، نقربهم من بعضهم البعض، ونثبت لهم الهدف بالدليل، فلا تطع الكفار فيما يطالبونك به من مداهنتهم وفيما يقدمونه من اقتراحات، وجاهدهم بهذا القرآن المنزل عليك جهاداً عظيماً، بالصبر على أذاهم وتحمل المشاق في دعوتهم، وهذه دعوة إلى الرسول وإلى من يسير سيرته في المجتمع، يثبته على الحق، يقوي يقينه، يصوب مساره، يقوِّم ما اعوج من أخلاقه، دليل آخر إليه الإشارة بقوله:(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا) والله سبحانه هو الذي خلط ماء البحرين، خلط العذب منهما بالمالح، وصيّر بينهما حاجزاً وستراً ساترا يمنعهما من التمازج، فلا المالح يطغى على الحلو فيجعله مالحاً ولا الحلو يطغى على المالح فيجعله حلواً، ولكن يبقى كل واحد على حاله التي خلقه الله عليها، وفي بيروت في قلب البحر عين ماء حلوة ماؤها عذب تخرج من قلب البحر، تنشر الماء العذب في مسافة كبيرة لا بأس بها، وسط الماء المالح، تريست بمائها الحلو على الماء المالح فسميّت عين المريسة، وهذا معنى البرزخ والحجر المحجور، أي فاصل وحاجز يحجز بين المائين فلا يطغى أحدهما على الآخر، ولم ذكر الماء المعروف وذكر آية فيه، ناسب أن يذكر آية في ماء من نوع آخر هو ماء الإنسان فقال:(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا) وهو الذي خلق من مني الرجل والمرأة بشراً، ومن خلق البشر أنشأ علاقة القرابة وعلاقة المصاهرة، وكان ربك أيها الرسول قديراً لا يعجزه شيء، ومن دلائل قدرته خلق الإنسان من مني يمنى، فهل خضع الخلق له؟ هل أفردوه بالعبادة؟ هل وحدوه وناصروه ووقفوا معه يدفعون الظلم؟ يأتي الجواب (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) ويعبد الكفار من دون الله أصناماً لا تنفعهم إن أطاعوها ولا تضرهم إن عصوها، وكان الكافر تابعاً للشيطان على ما يسخط الله سبحانه وتعالى عليه، من فوائد الآيات: